تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 392 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 392

392 : تفسير الصفحة رقم 392 من القرآن الكريم

** الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَىَ عَلَيْهِمْ قَالُوَاْ آمَنّا بِهِ إِنّهُ الْحَقّ مِن رّبّنَآ إنّا كُنّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَـَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مّرّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السّيّئَةَ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَإِذَا سَمِعُواْ اللّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ
يخبر تعالى عن العلماء الأولياء من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالقرآن, كما قال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به} وقال تعالى: {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله} وقال تعالى: {إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعول} وقال تعالى: {ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ـ إلى قوله ـ فاكتبنا مع الشاهدين}. قال سعيد بن جبير: نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي, فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم {يس والقرآن الحكيم} حتى ختمها, فجعلوا يبكون وأسلموا, ونزلت فيهم هذه الاَية الأخرى {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين} يعني من قبل هذا القرآن كنا مسلمين, أي موحدين مخلصين لله مستجيبين له. قال الله تعالى: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبرو} أي هؤلاء المتصفون بهذه الصفة الذين آمنوا بالكتاب الأول ثم الثاني, ولهذا قال: {بما صبرو} أي على اتباع الحق, فإن تجشم مثل هذا شديد على النفوس, وقد ورد في الصحيح من حديث عامر الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي, وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه,ورجل كانت له أمة, فأدبها فأحسن تأديبها, ثم أعتقها فتزوجها». وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني, حدثنا ابن لهيعة عن سليمان بن عبد الرحمن عن القاسم بن أبي أمامة قال: إني لتحت راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح, فقال قولاً حسناً جميلاً, وقال فيما قال: «من أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين وله ما لنا وعليه وما علينا ومن أسلم من المشركين فله أجره وله ما لنا وعليه ما علينا».
وقوله تعالى: {ويدرءون بالحسنة السيئة} أي لا يقابلون السيء بمثله, ولكن يعفون ويصفحون {ومما رزقناهم ينفقون} أي ومن الذي رزقهم من الحلال ينفقون على خلق الله في النفقات الواجبة لأهليهم وأقاربهم, والزكاة المفروضة والمستحبة من التطوعات وصدقات النفل والقربات. وقوله تعالى: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه} أي لا يخالطون أهله ولا يعاشرونهم, بل كما قال تعالى: {وإذا مروا باللغو مروا كرام} {وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} أي إذا سفه عليهم سفيه وكلمهم بما لا يليق بهم الجواب عنه, أعرضوا عنه ولم يقابلوه بمثله من الكلام القبيح, ولا يصدر عنهم إلا كلام طيب, ولهذا قال عنهم إنهم قالوا {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} أي لا نريد طريق الجاهلين ولا نحبها.
قال محمد بن إسحاق في السيرة: ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلاً أو قريب من ذلك من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة, فوجدوه في المسجد, فجلسوا إليه وكلموه وساءلوه, ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة, فلما فرغوا من مساءلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا, دعاهم إلى الله تعالى وتلا عليهم القرآن, فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع, ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوه, وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره, فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش, فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب, بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل, فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال: قال: ما نعلم ركباً أحمق منكم, أو كما قالوا لهم فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه, ولكم ما أنتم عليه لم نأل أنفسنا خيراً. قال: ويقال إن النفر النصارى من أهل نجران, فالله أعلم أي ذلك كان. قال: ويقال ـ والله أعلم ـ أن فيهم نزلت هذه الاَيات {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ـ إلى قوله ـ لا نبتغي الجاهلين} قال: وسألت الزهري عن هذه الاَيات فيمن نزلت ؟ قال: ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه رضي الله عنهم والاَيات اللاتي في سورة المائدة {ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً ـ إلى قوله ـ فاكتبنا مع الشاهدين}.

** إِنّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَقَالُوَاْ إِن نّتّبِعِ الْهُدَىَ مَعَكَ نُتَخَطّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكّن لّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىَ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَيْءٍ رّزْقاً مّن لّدُنّا وَلَـَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إنك يا محمد {لا تهدي من أحببت} أي ليس إليك ذلك, إنما عليك البلاغ, والله يهدي من يشاء, وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة, كما قال تعالى: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} وقال تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} وهذه الاَية أخص من هذا كله, فإنه قال: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهوأعلم بالمهتدين} أي هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية, وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد كان يحوطه وينصره ويقوم في صفه ويحبه حباً شديداً طبعياً لا شرعياً, فلما حضرته الوفاة وحان أجله, دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والدخول في الإسلام. فسبق القدر فيه واختطف من يده, فاستمر على ما كان عليه من الكفر, ولله الحكمة التامة. قال الزهري: حدثني سعيد بن المسيب عن أبيه, وهو المسيب بن حزن المخزومي رضي الله عنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عم قل لا إله إلا الله, كلمة أحاج لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى كان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب, وأبى أن يقول لا إله إلا الله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» فأنزل الله تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى} وأنزل في أبي طالب {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} أخرجاه من حديث الزهري, وهكذا رواه مسلم في صحيحه, والترمذي من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عماه قل لا إله إلا الله, أشهد لك بها يوم القيامة» فقال: لولا أن تعيرني بها قريش يقولون ما حمله عليه إلا جزع الموت, لأقررت بها عينك, لا أقولها إلا لأقر بها عينك, فأنزل الله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين} وقال الترمذي: حسن غريب, لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن كيسان, ورواه الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد القطان عن يزيد بن كيسان: حدثني أبو حازم عن أبي هريرة فذكره بنحوه, وهكذا قال ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة: إنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لا إله إلا الله, فأبى عليه ذلك, وقال: أي ابن أخي ملة الأشياخ, وكان آخر ما قاله هو على ملة عبد المطلب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو سلمة, حدثنا حماد بن سلمة, حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم عن سعيد بن أبي راشد قال: كان رسول قيصر جاء إلي, قال: كتب معي قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً, فأتيته فدفعت الكتاب فوضعه في حجره, ثم قال: «ممن الرجل ؟» قلت: من تنوخ. قال: «هل لك في دين أبيك إبراهيم الحنيفية ؟» قلت: إني رسول قوم وعلى دينهم حتى أرجع إليهم, فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظر إلى أصحابه, وقال: «إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء».
وقوله تعالى: {وقالوا إن نتبع الهدى نتخطف من أرضن} يقول تعالى مخبراً عن اعتذار بعض الكفار في عدم اتباع الهدى حيث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم {إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضن} أي نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى وخالفنا من حولنا من أحياء العرب المشركين, أن يقصدونا بالأذى والمحاربة, ويتخطفونا أينما كنا, قال الله تعالى مجيباً لهم: {أو لم نمكن لهم حرماً آمن} يعني هذا الذي اعتذروا به كذب وباطل, لأن الله تعالى جعلهم في بلد أمين وحرم معظم آمن منذ وضع, فكيف يكون هذا الحرم آمناً لهم في حال كفرهم وشركهم, ولا يكون آمناً لهم وقد أسلموا وتابعوا الحق ؟ وقوله تعالى: {يجبى إليه ثمرات كل شيء} أي من سائر الثمار مما حوله من الطائف وغيره, وكذلك المتاجر والأمتعة {رزقاً من لدن} أي من عندنا {ولكن أكثرهم لا يعلمون} ولهذا قالوا ما قالوا, وقد قال النسائي: أنبأنا الحسن بن محمد, حدثنا الحجاج عن ابن جريج, أخبرني ابن أبي مليكة قال: قال عمرو بن شعيب عن ابن عباس, ولم يسمعه منه, إن الحارث بن عامر بن نوفل الذي قال {إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضن}.

** وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاّ قَلِيلاً وَكُنّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىَ حَتّىَ يَبْعَثَ فِيَ أُمّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنّا مُهْلِكِي الْقُرَىَ إِلاّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ
يقول تعالى معرضاً بأهل مكة في قوله تعالى: {وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشته} أي طغت وأشرت وكفرت نعمة الله فيما أنعم به عليهم من الأرزاق, كما قال في الاَية الأخرى {وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان ـ إلى قوله ـ فأخذهم العذاب وهم ظالمون} ولهذا قال تعالى: {فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليل} أي دثرت ديارهم فلا ترى إلا مساكنهم. وقوله تعالى: {وكنا نحن الوارثين} أي رجعت خراباً ليس فيها أحد.
وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا عن ابن مسعود أنه سمع كعباً يقول لعمر: إن سليمان عليه السلام قال للهامة ـ يعني البومة ـ: ما لك لا تأكلين الزرع ؟ قالت: لأنه أخرج آدم من الجنة بسببه, قال: فما لك لا تشربين الماء ؟ قالت: لأن الله تعالى أغرق قوم نوح به. قال: فما لك لا تأوين إلا إلى الخراب ؟ قالت لأنه ميراث الله تعالى, ثم تلا {وكنا نحن الوارثين} ثم قال تعالى مخبراً عن عدله وأنه لا يهلك أحداً ظالماً له, وإنما يهلك من أهلك بعد قيام الحجة عليهم, ولهذا قال: {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمه} وهي مكة {رسولاً يتلو عليهم آياتن} فيه دلالة على أن النبي الأمي وهو محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث من أم القرى رسول إلى جميع القرى من عرب وأعجام, كما قال تعالى: {لتنذر أم القرى ومن حوله} وقال تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميع} وقال: {لأنذركم به ومن بلغ} وقال: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} وتمام الدليل قوله تعالى: {وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديد} الاَية, فأخبر تعالى أنه سيهلك كل قرية قبل يوم القيامة, وقد قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسول} فجعل تعالى بعثة النبي الأمي شاملة لجميع القرى, لأنه رسول إلى أمها وأصلها التي ترجع إليها. وثبت في الصحيحين عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: «بعثت إلى الأحمر والأسود» ولهذا ختم به النبوة والرسالة, فلا نبي من بعده ولا رسول, بل شرعه باق بقاء الليل والنهار إلى يوم القيامة, وقيل المراد بقوله: {حتى يبعث في أمها رسول} أي أصلها وعظيمتها كأمهات الرساتيق والأقاليم, حكاه الزمخشري وابن الجوزي وغيرهما, وليس ببعيد.